الأربعاء، 31 أغسطس 2011

الفلامنكو: فنُ يوحد الأقليات في وجه الإبادة الثقافية


























يمثّل الفلامنكو نمطا فريدا وفذّا من الموسيقى هو في الحقيقة مزيج من الألحان والشّعر والرّقص، وهو يتميّز بإيقاعات جذّابة استمالت قلوب الملايين وجعلته يكتسب عددا هائلا من المحبّين في جلّ أرجاء المعمورة، وهذا ما جعله يغدو المنتج الثّقافي الفنّي الأكثر حضورا وتأثيرا في المجال الحضاري الإسباني الرّاهن.


ويتنزّل هذا المقال في إطار مواصلة فتح النّوافذ على الموسيقى الغربيّة في نطاق اهتمامنا بما مسّها من تأثيرات عربيّة ساهمت بقدر كبير وجليّ في نشأتها. ونظرا لقلّة الاهتمام الذي تلاقيه مثل هذه القضايا من قبل الباحثين العرب رغم أهميّة تناولها وتحليلها في إيجاد مبرّرات حضاريّة للشّباب العرب في اهتمامهم "المبالغ فيه وغير المبرّر" بتلك الأنماط "الغربيّة" من الفنون - حسب البعض ممّن يدّعي الحفاظ على "نقاوة الهويّة العربيّة"-، فإنّنا سنحاول تقديم فكرة عامّة عن الفلامنكو كأحد أبرز الأنماط الفنيّة الغربيّة اليوم، مع التّركيز أساسا على التّأثيرات العربيّة التي مسّت طرائق عزفه وغنائه ورقصه.


1- العناصر والأنماط الأساسيّة في موسيقى الفلامنكو:


الفلامنكو تراث فنّي وثقافيّ إسباني تعود أصوله إلى هضاب منطقة الأندلس. ورغم غياب تاريخ دقيق لزمن ظهوره، إلاّ أنّ معظم مؤرّخي الموسيقى يرجعون ذلك إلى القرن الرّابع عشر على وجه التّقريب، ويتّفقون على أنّ بروزه في صيغته المعروفة اليوم لم تتمّ إلاّ خلال القرن الثّامن عشر. وقد اعتبر الفلامنكو منذ نشأته فنّ الفقراء والمهمومين والمتمرّدين داخل الأقليّات المضطهدة في إسبانيا؛ من الموريسكيّين (بقايا العرب المسلمين في إسبانيا بعد سقوط الأندلس)، والغجر واليهود، على يد محاكم التّفتيش التي أقامها الملك فرديناند لإجبارهم على اعتناق المسيحيّة الكاثوليكيّة، ممّا دفع هذه الأقلّيات إمّا إلى مغادرة الوطن أو التخفّي في الجبال والمناطق الوعرة التي شهدت ولادة هذا الفنّ تعبيرا عن مآسيها، ليتمّ تناقله من جيل إلى جيل عبر المأثور الشّفوي.


والفلامنكو فنّ متعدد المظاهر، فهو يتضمّن الرّقص والعزف والغناء، ويعتمد مزيجا من الألحان المستقاة أساسا من الموسيقى العربيّة وأساليب الغناء الخاصّة بطائفة اليهود الأسبان وموسيقى الغجر ذات الملامح الهنديّة الواضحة. ومن هنا، تعدّدت أنماط أغاني الفلامنكو مثل "السوليرياس" (Soleares) و"الأليغرياس" (Alegrias)… وهي تتميّز عن بعضها البعض باختلاف موازينها وخصائصها الهارمونيّة.


وتعتمد أغاني الفلامنكو قصائد مغنّاة يطلق عليها اسم "كانتي" (Cante)، وتتفرّع إلى عدّة أنواع تختلف بحسب اختلاف تعبيراتها. ومن ذلك مثلا قصائد "الكانتي خوندو" (Cante Jondo) (بمعنى الغناء العميق) وهي أولى وأقدم قصائد الفلامنكو، وتتمحور مواضيعها عامّة حول التّعبير عن معاناة ألم الحبّ وما يسبّبه الموت وفراق الأحبّة[1]. أمّا قصائد "الكانتي انترمديو" (Cante Intermedio)، فهي شديدة القرب في مواضيعها من مواضيع قصائد "الكانتي جوندو" لكن بنظرة أكثر تفاؤلا، إذ غالبا ما تكون نهايات قصص الحبّ فيها سعيدة. ويعتبر هذا النّمط من القصائد الغنائيّة في الفلامنكو الأكثر تأثّرا بالشّعر العربيّ نظرا لأصولها الموريسكيّة الجليّة، حيث يعتقد الكثير من الدّارسين أنّ هذا النّمط من الكانتي قد برز في الأندلس. كما نجد أيضا قصائد "الكانتي شيكو" (Cante Chico) التي يتخلّلها جوّ من الفرح والسّعادة أكثر من نظيراتها الأخرى، إذ غالبا ما تتمحور مواضيعها حول الفرح والفخر والتّعبير عن حبّ الحياة [2]. أمّا ما يسمى "لافوز أفيلا" (La Voz Afilla)، فهو نمط مميّز من القصائد المغنّاة في الفلامنكو منسوب إلى الغجر ينشد بصوت حزين ومتقطّع، ويشاع أنّه لا يمكن لأحد أن يتقن هذا الأسلوب في الإنشاد ما لم يكن غجريّا [3].


أمّا العزف في موسيقى الفلامنكو، فيرتكز على الارتجال، وتسمّى البنية الهارمونيّة والإيقاعيّة لأغاني الفلامنكو "كومباس" (Compas) [4]. وتعتبر الغيتار الآلة الموسيقيّة الأساسيّة المرافقة لمغنّي الفلامنكو، وقد أدخلها العرب إلى إسبانيا في القرن التّاسع الميلادي تحت مسمّى "كيثارة"، قبل أن نطرأ عليها بعض التّحويرات الأوروبيّة التي جعلتها اليوم في صيغتها العصريّة التي نعرفها بها. ومع أنّنا لا نعرف تاريخا دقيقا لتحديد بداية توظيف هذه الآلة الموسيقيّة في عزف الفلامنكو، إلاّ أنّ ذلك لم يمنعها من لعب دور هامّ في تأطير الجوّ العامّ للفلامنكو، إذ تتمثّل إحدى الوظائف الأساسيّة لعازف الغيتار في نقل أحاسيس ألم الوحدة وحرقة الفراق أو بسعادة اللّقاء والفرح بالحياة إلى المستمع. وتحمل آلة الغيتار التي تصمّم خصّيصا لعزف الفلامنكو ملامح تميّزها عن آلة الغيتار الكلاسيكيّة، وهو ما حلّله "بول ماغنوسن" (Paul Magnussen) في مقال بعنوان "Rincon flamenco" نشرته مجلّة Classical Guitare سنة 1997 [5]. فالنّوع الأوّل المخصّص لعزف الفلامنكو حصرا، يصنع من خشب شجرة السّرو ويتميّز بخفّة الوزن وبصوت أكثر إيقاعيّة، إضافة إلى غلاف خفيف يحمي لوح الآلة من نقر الأصابع يسمى بالاسبانيّة "قولبيدورس" (Golpeadores)، في حين يصنع الغيتار الكلاسيكيّ من خشب الورد ويكون وزنه أكثر ثقلا. هذا بالإضافة إلى العديد من الاختلافات في طريقة العزف وتقنياته. كما توظّف آلات موسيقيّة أخرى في عزف الفلامنكو مثل الكمنجة والفلوت والتيمبال (Timbales).


ويعتبر رقص الفلامنكو أحد أشهر أنماط الرّقص في العالم، وهو يتفرّع إلى عدّة أنواع لعلّ أشهرها رقصة "الخويرغا" (Juerga) ورقصة "التّانغو" (Tango) … وتِؤدّى رقصات الفلامنكو بصفة فرديّة، وقد جرت العادة بأن يكون المؤدّي امرأة. ويصف "جورج بورو" (George Borrow) في كتابه "الغجر" (The Zincali) أداء راقصة فلامنكو أثناء أحد العروض التي شاهدها: "تدوس الأرض بقدميها بقوّة وهي تضع يديها على وركيها، تتحرّك بقوّة تارة نحو اليمين وتارة نحو اليسار، تتقدّم وتتراجع في اتّجاه مائل. أصبحت نظراتها الآن أشدّ حدّة… تبدأ بالتّصفيق بيديها… تنطق بكلمات غير مفهومة بلهجة غريبة وغير مألوفة… من ثمّ تثب، وتقع على الأرض لترتدّ ثانية بمستوى ياردة فوقها…" [6]. أمّا حديثا، فقد أصبح من المألوف أن تؤدّى بعض رقصات الفلامنكو بصفة ثنائيّة، حيث يكون هناك نوع من التّواصل بالأعين بين الرّاقصين إضافة إلى العواطف الجيّاشة المشتعلة بينهما، والتي يلاحظها المتفرّج أثناء قطعهما للركح جيئة وذهابا، وأحدهما يقابل الآخر، ومن ثمّ يرفع الرّاقص يديه عاليا فتجري شريكته نحوه وترتمي في أحضانه، لينحني هو بدوره إلى الوراء بما يقارب 45 درجة وهو يحضنها بين يديه. ويمكن أن نشاهد مثل هذه الرّقصة في فلم "كارمن" (Carmen) الذي قام ببطولته الرّاقص المشهور "أنتونيو قادس" (Antonio Gades) والرّاقصة "ماريا ديل صول" (Maria Del Sol). كما يتخلّل رقص الفلامنكو أيضا التّصفيق بالأيدي والنّقر بالقدمين على الأرض، وهو ما يوظّف عادة لضبط الإيقاع.


وقد انتشر في خمسينات القرن الماضي ما يسمّى "أوبرا الفلامنكو"، وهي عروض مسرحيّة تشبه الأوبرا الكلاسيكيّة إلى حدّ ما، يقدّم فيها رقص وغناء الفلامنكو. وعلى حدّ تحليل "إيما مارتينز" (Emma Martinez) لهذه الظّاهرة في كتابها "كلّ ما يراد أن يعرف عن الفلامنكو" (Flamenco…All Wanted To Now) [7]، فإنّ الأمر يتعلّق بخطوة اتّخذها الدّيكتاتور المطاح به "فرانكو (Franco) من أجل الارتفاع بالفلامنكو إلى درجة تجعله فنّا قوميّا إسبانيّا. كما تصف الكاتبة أيضا في نفس العمل، ما يسميّى "التابلواس" (Tabloas)، وهي عروض تقام في أماكن عامّة مثل المقاهي والكباريهات والنّوادي اللّيليّة، وهو ما تعتبره الكاتبة امتدادا وتطوّرا لما كان يعرف باسم "مقاهي الكانتانتي" (Cafés Cantante) التي انتشرت خلال القرنين 18 و 19، وهي أوّل الأماكن التي أقيمت فيها عروض رسميّة للفلامنكو والتي شهدت الانطلاقة الأولى لكثير من فنّاني الفلامنكو المشهورين مثل "مانولو كراكول" (Manolo Cracol) و "إنريكي مورينتي" (Enrique Morente)….


وتطوّرت موسيقى الفلامنكو اليوم على يد عدّة فنّانين عالميّين مثل: "باكو دي لوثيا" (Paco De Lucia) و "آلدي ميولا" (Aldi Meola) وفرقة "جيبسي كينغس" (Gypsy Kings)….. الذين تمكّنوا من مزج الفلامنكو مع موسيقى الجاز وموسيقى البوب (Pop Music) ، وإضافة عناصر جديدة على طاقم العزف مثل آلة البيانو..


2- أصل كلمة فلامنكو:


يوجد الكثير من الاختلاف والتّضارب بين الباحثين في موسيقى الفلامنكو حول أصل تسميتها. حيث أرجعها البعض مثل المفكّر والكاتب "بلاس إنفانتي" (Blas Infante) إلى أصول عربيّة مفترضا أنّها مركّبة من الكلمتين العربيّتين "فلاّح" و"منغو"، مشيرا إلى أنّها كانت تستخدم للإشارة إلى الفلاّحين الموريسكيّين (مسلمو الأندلس) الذين طردهم الملك فرديناند وزوجته إيزابيلا من أراضيهم لرفضهم دخول المسيحيّة الكاثوليكيّة، ففرّوا نحو الجبال واندمجوا مع الغجر لينشؤوا معا فنّ الفلامنكو كنوع من التّعبير عن الظّلم والقهر في مواجهة هذه الإبادة الثّقافيّة. لكن، يوجد أيضا من ينفي أيّة علاقة لكلمة فلامنكو باللّغة العربيّة، حيث يورد "فيليكس غراندي" (Felix Grande) في كتابه "ذكرى الفلامنكو" (Memoria del flamenco)[8]حديثا أجراه مع شاعر عربي صديق له يشير فيه إلى عجزهما عن إيجاد أيّ رابط بين كلمة فلامنكو ولفظي "فلاّح" و"منغو"، ذلك أنّ اللّفظ الثّاني ببساطة لا وجود له في اللّغة العربيّة، إضافة إلى أنّ كلمة فلامنكو لم تظهر إلاّ في بدايات القرن الثامن عشر، أي بعد خروج العرب من الأندلس بأكثر من قرنين تقريبا.


ويطرح "فيليكس غراندي" في نفس الكتاب تصوّره الخاص لأصل هذه الكلمة، ويتقدّم بفرضيّة مفادها أنّ اللّفظ ربّما كان ذا أصول غجريّة، ومن ثمّة يشير إلى أنّ الغجر تعوّدوا حمل سكّين يربطونها بأحزمتهم تسمى "فليمي"’ (Fleme)، وهو نفس التّقليد ذي البعد الدّينيّ الذي نجده أيضا لدى بعض القبائل في الهند، أي البلد الذي هاجر منه الغجر نحو أوروبا، وهو ما يجعله بالتّالي متداخلا مع معتقدات الشّعبين الدّينية. وقد ساندت الباحثة "إيما مارتينز" [9] هذا التصوّر، حيث أشارت إلى وجود عادة عند مربّي الخيول الغجر تقتضي منهم حمل مثل هذه السّكين، ذاهبة إلى أنّ تسمية "فليمي" التي أطلقت عليها تعود في الحقيقة إلى كلمة "فليكمي" (Flecme) الموجودة في اللّغة "البروفانسيّة" (Provance) التي لا تزال مستخدمة إلى يومنا هذا في منطقة كاتالونيا جنوب فرنسا، وهي المنطقة التي سبق أن عبرها الغجر في رحلتهم من الهند نحو إسبانيا. أمّا كلمة "انكو" (Enco)، فتشير نفس الباحثة أنّها مجرّد زائدة لغويّة توظّف في اللّهجة العاميّة للإشارة إلى أنّ تلك الجماعة قدمت من مكان ما، أو أنّ فلانا ينتمي إلى منطقة كذا، وأنّها ربّما أضيفت في بعض الأحيان إلى اسم الشّخص إهانة له. ومن هنا تستنتج الباحثة أنّ كلمة فلامنكو تعني حاملي السّكاكين وأنّها كانت تستخدم كإشارة مهينة إلى الغجر الذين طالما نظر إليهم بوصفهم فئة منبوذة وخارجة عن القانون داخل المجتمع الاسباني بسبب نمط عيشهم المتمرّد. ولئن كان ما يتردّد إلى اليوم من حكايات في إسبانيا عن اشتهار بعض الغجر الخارجين عن القانون بارتكاب جرائم باعتماد السّكاكين مثل "سيفيرينو غيمينس مالا"Ceferino Giménez Malla) ) من شأنه أن يدعم هذا الافتراض، إلاّ أنّ مراجعتنا قواميس اللّغة البروفانسيّة أثبتت خلوّها من أيّ أثر للفظ "فليكمي"، وهو ما دفعنا إلى مزيد تعميق البحث ليتبيّن لنا أنّ أصلها هو اللّغة الرّومانيّة (la langue romane) وأنّها كانت مستخدمة عند الشّعراء الجوّالين في جنوب فرنسا المعروفين باسم "التّروبادور" (troubadours)، حسب ما أشار إليه "فرانسوا جوست ماري" (Fronçois Juste-Marie) في القاموس الذي أعدّه حول الكلمات الرّومانيّة التي يستعملها التّروبادور والذي حمل عنوان "المعجم الرّوماني أو قاموس لغة التّروبادور" (Lexique roman ou dictionnaire de la langue troubadours) [01]. كما وجدنا أيضا أنّ كلمة "فليمي" تعني في اللّغة البروفانسيّة "المتّهم بالخروج عن القانون"، وهي تحمل هذا المعنى أيضا في اللغة الانكليزية الوسيطة [11].


أمّا الكلمة الوحيدة التي وجدناها قريبة لكلمة "فليمي" أو "فليكمي" وتحمل معنى سكّين أو سلاح محمول في اللّغة البروفانسيّة، فهي كلمة "فليم" (Flem)، وهذا ما يضعف الفرضيّة التي يطرحها الكاتبان المذكوران.


وتوجد عدّة بحوث وفرضيّات أخرى حول أصل الكلمة، لكنّنا وجدناها غير متعمّقة وغير جديرة بالاهتمام، لذلك اقتصرنا على طرح فرضيتّي الأصول العربيّة والغجريّة، لتبقى بذلك كلمة فلامنكو رمزا للنّضال ضدّ الإبادة الثقافيّة ومحاولات تغييب ومسح الهويّة القوميّة التي عانت ومازالت تعاني منها عديد الأقليّات في جميع أرجاء المعمورة.


3- الملامح العربية في موسيقى الفلامنكو:


لقد أشار كثير من الباحثين في مجال الموسيقى والإناسة الثّقافيّة، من المتخصّصين وغير المتخصّصين في دراسة الفلامنكو، إلى الطّابع الشّرقيّ الملحوظ في هذه الموسيقى، وإلى التّأثيرات العربيّة التي ساهمت بنسبة كبيرة في نشأتها وبروزها. ويعود هذا غالبا إلى ما بلغه العرب المسلمون من تطوّر ورقيّ في جميع الميادين خلال فترة حكمهم للأندلس. وإلى جانب الفلسفة والأدب والطبّ وعلوم الرّياضيّات والهندسة والكيمياء، كان العرب متقدمّين على الغرب في علم الموسيقى الذي توارثوه عن اليونانيّين وطوّروا فيه لكي تبلغ الموسيقى العربيّة قمّة الازدهار مع بروز الموشّح وموسيقى النّوبة وغيرها من الأنماط الموسيقيّة العربيّة. وقد تميّزت الأندلس في فترة الحكم العربي بمشهد ثقافيّ متميّز لقيت فيه الموسيقى والفنون بصفة عامّة تقديرا من قبل عامّة الشّعب والحكّام أيضا، خاصّة في العصرين المريني والسّعدي اللذين شهدا تدريس الموسيقى في المساجد، بوصفها علما لا يستقيم الاتّصاف بصفة عالم إلاّ بمعرفته، إن لم يكن الغوص فيه لارتباطه المتين بالفلسفة. كما شهدت الأندلس بروز عدّة معاهد موسيقيّة أسّس أوّلها على يد "زرياب"، لكي تنتشر في ما بعد في كلّ من غرناطة وطليطلة وأشبيليّة…. وقد كان لبروز الموشّحات والأزجال الأندلسيّة أثر كبير على موسيقى الفلامنكو، فكلاهما يعتمد تطبيق الإيقاع الغنائي على الإيقاع الشّعري أساسا. إضافة إلى أنّ أغاني الفلامنكو كانت تغنّى دون مرافقة أيّ آلة موسيقيّة وتريّة، بل بمرافقة آلة إيقاعيّة تتمثّل في قضيب يضرب على الأرض أو على جسم صلب لضبط ميزان الإيقاع. وكانت معظم مواضيعها تروي مغامرات عاطفيّة تعبّر عن المعاناة والعزلة أو تروي قصص الأبطال الموريسكيّين أو الغجر الذين وقفوا في وجه الكاثوليكيّين.


ويقترب الجوّ العامّ لموسيقى الفلامنكو من الجوّ العامّ للموسيقى العربيّة، فكلاهما يعتمد الارتجال على مستوى العزف إضافة إلى الارتباط الوثيق بالرّقص. كما أنّ توزيع الأدوار في فرق الفلامنكو يتمّ على غرار مثيله في الفرق الموسيقيّة العربيّة، أي حسب الجنس حيث لا يمكن أن تشغل المرأة إلا دور المغنّية أو الرّاقصة. وفي مقارنة قام بها "برنارد ليبلن" (Bernard Leblon) في كتابه "الغجر والفلامنكو" (Gypsies And Flamenco)[12] بين فرقة "باندا دي فيرديالس" (Panda De Verdiales) المتخصّصة في الفلكلور الإسباني لهضاب مالقة، وبين الفرق المغربية للفلكلور العربي الأندلسي، يستنتج الكاتب وجود تشابه كبير بينهما يتجسّد بالخصوص في استعمال نفس الآلات الموسيقيّة. فالفرق الاسبانيّة توظّف في موسيقاها آلة إيقاعيّة تسمى "أدف" (aduf) أو "باندرو" (Pandero)، وهي نفسها آلة "الدفّ" شائعة الاستخدام في الموسيقى العربيّة، أو ما يسمّى في منطقة المغرب العربي "البندير" (لاحظ تشابه الاسم في العربيّة والإسبانيّة)؛ إضافة إلى توظيف آلة العود، وآلة الكمنجة التي عوّضت الرّبابة )"رابل" Rabel بالاسبانيّة). كما نلاحظ لدى مغنّي الفلامنكو أسلوبا إنشاديّا مألوفا يقترب كثيرا من أسلوب الإنشاد العربي، فكلاهما يعتمد الغناء المتقطّع والملوّن بالارتفاع والانخفاض في الطّبقات الصّوتيّة، وهي نفس السّمات التي نجدها في أذان الجوامع، وهو الأسلوب الإنشادي الذي يسمّى في العرف الموسيقيّ بـ"الماليزما" (Melisma). ولعلّ ممّا يؤكّد أنّ هذا الأسلوب تمّ نقله إلى الفلامنكو عبر الموسيقى العربيّة هو اعتباره من قبل الباحثين "غيرهارد كيوبك" (Gerhard Kubik) و"سيلفيان آنا ديوف" (Sylviane Anna Diouf) أحد أهمّ التّأثيرات العربيّة في موسيقى البلوز. ويفسّر مؤرّخ الموسيقى المختصّ في تاريخ البلوز "صموئيل باركلي كارترز" (Samuel Barkley Charters) في كتابه "جذور البلوز" (The roots of the blues) [13] التقارب الذي لاحظه بين موسيقى البلوز والفلامنكو، بتلقّي هذين النّمطين من الموسيقى شحنة من التأثيرات العربية، وهو ما يعتبر الفرضيّة الأكثر تماسكا ومنطقيّة لتفسير التّقارب بين الفلامنكو والبلوز.


وقد ابتدع زرياب، مجدّد الموسيقى العربيّة في الأندلس، طريقة بيداغوجيّة لتلقين تلاميذه طريقته الخاصّة في الغناء، والتي كانت تقتضي حبس الأنفاس وإرجاع البطن إلى الوراء وفتح الفم كاملا عبر الضّغط على البطن بواسطة قضيب، مع اشتراط وضع التّلاميذ قطعة من الخشب بين أسنانهم أثناء النّوم. ويشير كلّ من "جون بول أوليف" (Jean-Paul Olive) و"سوزان كوغلر" (Suzanne Kogler) في كتابهما "الموسيقى والذّاكرة" (Musique et mémoire) [14] إلى تواصل استخدام هذه الطّريقة البيداغوجيّة التي أوجدها زرياب لتلقين المغنّين والعازفين أصول الفلامنكو وتقنيات عزفه وغنائه. كما يشير أيضا إلى أنّ الكلمات التي يصرخ بها مغنّي الفلامنكو مثل "أولي" (olé) و "يا-لي-لي-لا" (ya-li-li-la) والتي غالبا لا يقصد بإضافتها شيء معيّن غير الزّينة، ما هي في الحقيقة سوى الكلمتين العربيتان "يا الله" و"يا ليلي" اللتين يستخدمهما العرب في أغانيهم الارتجاليّة.


كما يشير مؤرخ الموسيقى "غونار ليندغرن" (Gunnar Lindgren) في مقال بعنوان "الجذور العربية لموسيقى البلوز والجاز" (The Arabic Roots Of Blues And Jazz) [15]، إلى التّشابه الكبير بين الإيقاعات العربيّة والأمريكيّة اللاّتينيّة؛ من حيث اعتماد كليهما أوزانا إيقاعية سريعة ومهارات عالية في العزف، وهو ما يعرف بـ"حركة النّمر"، وهو ما ينطبق شديد الانطباق على إيقاعات الفلامنكو التي كانت سببا في التّأثير على موسيقى لاتين القارّة الأمريكيّة، بفعل الاستعمار الإسباني والبرتغالي الذي امتدّ قرونا متوالية لتلك المناطق، والذي أدّى إلى فسخ الهوية الثقافية للعديد من الشعوب الأصلية لتلك المنطقة، مثل شعبي الإنكا والأزتك…. وكما ذكرنا من قبل فإنّ الآلات الإيقاعيّة التي توظّف من قبل كثير من فرق الفلكلور الاسباني هي ذات أصول عربية، مثل "الدفّ" (aduf) وهي ذات الآلة التي دخلت الموسيقى الأمريكية اللاتينية عن طريق الأسبان، أي عن طريق فنّ الفلامنكو ومازالت تستعمل إلى يومنا هذا [16]. فإذا عدنا إلى مسألة الرّقص، فإنّنا واجدون أوجه تقارب عديدة بين الرقص الشرقي ورقص الفلامنكو، فكلاهما يعتمد الارتجال بحيث تكون حركات الراقصين وليدة اللحظة لا معدّة سلفا مثل ما نجده في الرّقصات الأوروبيّة. فالرّاقص ينفعل مع الموسيقى ليدخل في حالة من النّشوة يصفها العرب بالطرب والأسبان بلفظ "Duende" كما تذكر "فيرجيني ريكولن" Virgini Recolin)) في كتابها "مدخل إلى الرّقص الشّرقي" [17]. وتلعب "الصّنجات" عند الرّاقصات الشّرقيّات نفس الدّور الذي يلعبه التّصفيق عند راقصات الفلامنكو، أي تحديد الميزان أو الإيقاع. أمّا بالنسبة لحركة النقر بالأرجل على الأرض في الفلامنكو والتي تعرف باسم "Zapateado"، فيشير الباحثان "جميلة هاني شبرا" و"كريستيان بوشي" (Christian Poché) في كتابهما "الرقص في العالم العربي: ميراث العوالم" [18]، إلى ظهور هذه الحركة في الأندلس على يد الراقصين العرب. ولإثبات الأصل العربيّ لهذه الحركة، يوظّف الكاتبان التحليل اللغوي الفيلولوجي طارحين فرضية أن تكون كلمة "Zapatear" الاسبانية التي اشتقّت منها كلمة "Zapateado" هي ذاتها كلمة "سبّاط" المستخدمة إلى اليوم في كثير من اللّهجات العاميّة في المغرب العربي كمرادف لكلمة "حذاء"، والتي نجدها أيضا في معجم اللغة الرومانية بمعنى "إصدار ضجيج". ويستند الكاتبان في طرحهما هذا على ارتداء الرّاقصين أحذية قاسية الأعقاب ينقرون بها الأرض عند الرّقص، ممّا يصدر ضجيجا يساهم في تغذية اللّحن. إلاّ أنّ كاتب هذه السّطور يطرح فرضيّة أخرى قد تكون أقرب إلى الواقع حول أصل كلمة "Zapateado"، وهي كلمة "ضبط" أي "ضبط الإيقاع" ومنه تسمية عازف الطّبلة أو الدّربكة باسم "ضابط الإيقاع"، وهنا نلاحظ انطباقا شبه مطلق بين الكلمتين في النّطق والدّلالة.


وأخيرا، تجدر الإشارة إلى أنّ هذا العمل لا يقصد إلاّ إعطاء لمحة عامّة عن تاريخ الفلامنكو وأهمّ التّأثيرات العربيّة التي ساهمت في ولادته وتطوّره، كما ذكرنا في المقدّمة، وأنّ البعض من عناصره يستحقّ أن يدرس بصفة أكثر دقّة وتوسّعا.








-جهاد بالحاج سالم.


0 التعليقات:

إرسال تعليق